مجلس القضاء والإجراءات الشكلية والموضوعية للقضاء العرفي من ك القضاء العرفي



مجلس القضاء العرفي

لهذا المجلس من الهيبة والاحترام والتقدير ما يجعل طرفي النزاع والحضور منتبهين ويقظين لكل ما يحدث بدءًا من استقبال القاضي للحضور، ثم تقديم القهوة ليبدأ بعد ذلك إجراءات التقاضي، حيث يكون مجلس القاضي شخصيًا في صدر الجلسة ليرى بعينه جميع الحضور مستمعًا لكل كلمة تصدر، لأن القاضي يكون في حالة استعداد من حيث احترام الحضور للمكان والتزام الأطراف بكل كلمة تصدر منه([1]).
فيبدأ الجلسة بقراءة الفاتحة، ثم يطلب من الطرفين تسمية الكفلاء ويبدأ في الاستماع مُحذرًا من عدم المقاطعة ليبدأ في دراسة النزاع المطروح عليه حسب نوع هذا النزاع سواء كان من القضايا المدنية أو الجنائية، وتكون الجلسات في أغلبها بعد صلاة العصر حتى يكون متسع من الوقت لدراسة القضية من جميع جوانبها، ومن أقوال القضاة في بداية الجلسات "أنا ما عندي دقون مُمشطة"، ويعني ذلك إخطار الجمع بأن العدالة هي أساس حكم القاضي.
وفي القضايا الهامة يكون استعداد القاضي وبعض من عشيرته لعدم إعطاء الفرصة بتغيير الجو العام لجلسة القضاء ومنع أي اعتداء من طرف على آخر وإشعار الحضور بأن هذا المجلس به من يستطيع السيطرة التامة على أي طرف.
ولمجلس القضاء العرفي هيبة ووقار لا يقل عن هيبة مجالس القضاء في قاعات المحاكم إلا أن المجلس العرفي يسمح بتواجد كل من يرغب في الاستماع إلى إجراءات القضايا ومن ثَم صدور الحكم وذلك أحد أوجه تعلم الأبناء لهذا العمل الطيب، وهو جزء من ثقافتهم.
الإجراءات الشكلية للقضاء العرفي

للقضاء العرفي إجراءات حسب نوع كل قضية، كما هو مُقنن في المحاكم في كل بلاد العالم، وله إجراءات شكلية لابد من إتباعها في القضايا المُختلفة.
·       الإجراءات الشكلية في قضايا القتل:
أ) قضايا القتل العمد:
في قضايا القتل العمد يكون الأمر صعب للغاية، فعلى الجاني سرعة إخطار عصبته بما حدث لأن الثلاث أيام الأولى بعد الجريمة مباشرة تُعطي فرصة لأهل المجني عليه في القتل أو سلب الأموال والممتلكات، هذا من جانب، ومن جانب آخر، إن أهل المجني عليه يكونوا في حالة ثورة وطلب الثأر ولم تتضح الحقيقة بعد أمامهم، فقد اتفق عرفًا على أن أهل الجاني عليهم سرعة الرحيل والاستجارة بقبيلة أخرى أو بمن له جاه يحميهم في هذا الظرف العصيب.
يبدأ وجهاء القبائل وشيوخها بالتدخل من تلقاء أنفسهم لفهم الحقيقة ومحاولة وقف صراع الدم، ومن الطبيعي أن الأيام الأولى في مثل هذه الجريمة تكون ساخنة ويتطلب الأمر من هؤلاء الوجهاء الصبر واستمرار الطلب من أهل المجني عليه بنقل "الجيرة".
فإذا استطاع هؤلاء الوجهاء إقناع أهل المجني عليه بنقل "الجيرة" أصبح هذا الإجراء بداية الإجراءات للدخول في التقاضي.
ب) قضايا القتل الخطأ:
بالرغم أن القتل الخطأ أقل صعوبة إلا أن التحرك من وجهاء المجتمع للسعي لدى أهل المقتول وإقناعهم بقبول "الجيرة" -والتي تعني هدنة محددة-، لأن القتل الخطأ يتطلب هذا الإجراء الشكلي -وهو نقل الجيرة-، والذي يتم الاتفاق عليه مع أهل المجني عليه ومعها كفيل "الوفا" -وهو الضامن للوفاء بالحق-، وبعد أيام أو أشهر يتم التقاضي.
إن وجهاء المجتمع هم المُمثلون للمجتمع القبلي في التدخل سريعًا "كالنيابة العامة في النظام العام".
·       الإجراءات الشكلية في التعدي على الأعراض والبيوت:
إن الإجراءات الشكلية في التعدي على الأعراض والبيوت ضرورة هامة جدًا، ومن الإجراءات التي تمنع تطور النزاع، فالمعتدي وعصبته عليهم سرعة إخطار وجهاء وشيوخ وعقلاء مجتمعهم لسرعة التحرك إلى المجني عليهم سواء في قضايا الأعراض أو التعدي على البيوت بطلب "الجيرة" حتى يقف هذا النزاع عند الحد الذي وصل إليه، وإن الإهمال من المعتدي على الأعراض والبيوت وعدم تحرك الوجهاء لذلك قد يدفع المعتدى عليه وعصبته بارتكاب جريمة لا يُحمد عقباها.
·       الإجراءات الشكلية في القضايا الأخرى العامة:
1) قضايا الضرب التي تتسبب في جروح أو كسور أو نزاعات قد تتطور إلى أكبر منها:
على المعتدي وعصبته سرعة طلب "عطوة" وهي بمثابة هُدنة وعمل تمهيدي لإجراءات التقاضي وبحث الأسباب والنتائج حرصًا على سلامة المجتمع.
2) في قضايا المعاملات والحقوق العامة من أراضي أو مشاركة:
على مُدعي الحق أن يُرسل "بدوة" للمدعي عليه أو كبار عصبته يُطالبه فيها بالتقاضي لإثبات حقه، وتكون "البدوة" بإجراءات التنبيه بطريقة تُشبه "الإنذار على يد مُحضر".
·  إذا حدثت مشكلة أو نزاع قد يتطور تطورًا يسبب ضررًا أو يفتح مجالاً لجريمة أخرى يتدخل طرف ثالث على وجه السرعة، ويقوم بعمل إجراء يُسمى "رمي الوجه"، ويعني إجبار الأطراف على وقف النزاع فورًا في وجه شخصيات لها قيمة كبيرة في المجتمع، وتحوز على الاحترام والتقدير، وهي مانعة للشر.
ومتفق عرفًا على أن "رمي الوجه" من الضروري احترامه وتقديره، والمتعدي بعد رمي الوجه يلتزم بالتقاضي أمام القضاء المختص بذلك.
·  من الإجراءات الشكلية أيضًا ضرورة التعامل مع كبار القبيلة، لأن التعامل مع غيرهم قد لا يسري على القبيلة، ويُعتبر هذا الإجراء من الشكليات الهامة المُلزمة حسب العرف في سيناء، ويُقال: "من ليس له كبير، يشتري له كبير"، وذلك حرصًا على أن الكبار أعلم وأدرك للأمور، وهم حريصون على مصالح أبناءهم.

الإجراءات الموضوعية للقضاء العرفي

تتميز الإجراءات الموضوعية في القضاء العرفي بالدقة ودراسة النزاع بالبحث عن الحقيقة لجذور هذا النزاع، وإن القاعدة العرفية في هذا الجانب أن لكل نزاع أصل لابد من البحث عنه حتى ينتهي هذا النزاع معنويًا وماديًا ونفسيًا في كل القضايا.
·       والإجراءات الموضوعية تتمثل في الآتي:
بعد اتفاق الأطراف المتنازعة -كما وضحنا في الإجراءات الشكلية -سواء بنقل الجيرة أو إعطاء العطوة،  يتم الاتفاق على أحد أمرين:
1) أن يجتمع طرفي النزاع لدى "المَلم"([2]) ويُسمى "بيت الخَط" وذلك لتحديد القضاة المختصين بهذا النزاع مثل :
·       اختصاص "منقع الدم" بقضايا القتل وقصاص الجروح.
·       و"المنشد" في قضايا الأعراض.
·       و"العقبي" في قضايا النساء.
·       و"الأحمدي" في قضايا البيوت.
·       و"الزيادي" في الإبل والمواشي.
·       وأهل الاختصاص في باقي النزاعات من أراضي ومعاملات مدنية.
2) أن يتفق طرفي النزاع -عن طريق الوسطاء- باختيار القضاة على أن يكونوا ثلاثة يُحدد أحدهم القاضي الأول، وكل طرف "يعدف" حتى يتسنى لهم بعد التقاضي عند القاضي الأول حق الانتقال "حق الاستئناف" لدى القاضي الثاني إذا لم يرتضي أحدهم حكم القاضي الأول.
3) إن تحديد الكفلاء سواء "كفيل الوفا" أو "كفيل الدفا" كان ذلك في بيت الخط أو عن طريق الوسطاء أو في أول جلسة أمام القاضي المختص من الإجراءات الموضوعية الهامة، لأن الكفيل ضامن متضامن ويسمى "الكفيل اللزيم"، وتعني أنه مُلزم بما يصدر من القضاء العرفي التزامًا كاملاً.
النزاع على الاختصاص
إذا اتفق أطراف النزاع على التقاضي واختلفوا على تحديد اختصاص جزء أو كل من هذا النزاع، كأن يدعي أحدهم أن جزء من النزاع من اختصاص "المنشد" والآخر لا يرى ذلك، فتكون عقبة أما الطرفين، فلم يترك مُشرعي القضاء العرفي ذلك للاجتهاد، وقد تخصص لذلك قضاة يسمون باسم "الضريبية" أو "الدريبية" وتعني تحديد درب التقاضي وتحديد القاضي المختص.
وهذا ركن هام من الإجراءات الموضوعية لهذا الاختصاص.
وكما للقضاء العادي أكثر من درجة مثل الجزئي والابتدائي والاستئناف فإن القضاء العرفي له درجات لإعطاء الفرصة للمتقاضين.
وفي بعض الحالات يتم حل النزاع لدى القاضي "الدريبي" دون الإحالة إلى قضاة آخرين، لأن الأصل في قضاة الإحالة إلى الاختصاص هم ضمن منظومة القضاء العرفي، ويعملون في هذا المجال، وتُعطى لهم صلاحيات من قبل المتنازعين لفض النزاع أو الإحالة.
ولأن الأصل في مقاصد القضاء العرفي هو الإصلاح وفض النزاع واستقرار أفراد المجتمع والعيش في أمن وأمان، فنجد أحيانًا أن الاعتذار من المخطئ في ديوان شيخ القبيلة أو كبيرها أو حتى في بيت القضاء يُنهي الخصومة، وأن الإحالة إلى القضاء العرفي تهدف إلى الاستقرار.
وفي بعض الحالات يتم الصلح دون حكم على ما تم من نزاع، ويصدر حكم لعدم التكرار مضمونًا في "وجه الكفلاء" حرصًا من العقلاء والقضاة على أن الصلح أقرب وأفضل الطرق، لأن لها أثر نفسي طيب.



1) القضاء العرفي في شمال سيناء : إعداد لجنة جمع التراث.
1) سيناء المقدسة : يحيى محمد الغول "المؤلف".