الصفات التي يتسم بها القضاء العرفي في سيناء

الصفات التي يتسم بها القضاء العرفي في سيناء



أولاً : التعاون:

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يَشُدُّ بعضُه بعضاً – وشبك بين أصابعه" .

إن الناظر إلى عمق الأصالة والقيمة التي يتمتع بها القضاء العرفي في كل إجراءاته تظهر مدى التعاون من أغلب أفراد المجتمع قبل وأثناء أو بعد أي نزاع , حيث يعتمد هذا القضاء على التعاون.

كما أن رابطة الدم والمسئولية المشتركة والالتزام القبلي هو عمل تعاوني لإحكام الضبط الاجتماعي من خلال القضاء وتمسك الجميع بالعادات والأعراف التي تفرض على كل فرد التعاون والاشتراك للمصلحة العامة , بداية من التدخل في النزاع ومحاولة الإصلاح , وإذا لم يتم الاصلاح يكون الاصرار من الوسطاء لقبول الطرفين بالاحتكام للقضاء العرفي.

وجميع هذه الإجراءات تكون بالتعاون بين أفراد المجتمع , لأن المصلحة العامة رسخت في الأذهان مثل هذا التعاون الذي يحتوي في مضمونه على فكرة الحب والتماسك مما يؤدي إلى الأمن والأمان نتيجة هذا التعاون.

ومن الأدلة الهامة على التعاون التدخل السريع من الشيوح والحكماء وأهل الرأي والمشورة في كل نزاع حتى لو كان ذلك على حساب مصالحهم الشخصية , وهي قيمة توارثها أفراد المجتمع وأصبحت قاعدة تنتقل من جيل إلى جيل أدت إلى الترابط وإشراك الجميع متعاونين لمصلحة المجتمع.

ثانياً : الحُسنى:

عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله _صلى الله عليه و سلم_ "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمى" .

فمن هذا المنطلق تعتبر الحسنى صورة من صور الشهامة والمروءة والتنازل عن حق , أو الوعد بتقديم مساعدة.

وهي من الأعمال التي تحافظ على تأصيل العلاقات الطيبة بين من تقدم بالحسنى والمُحسَن إليه , وهي تورث للأجيال كقيمة يحتذي بها الآخرون , وتكون عاملاً رئيسياً في الود والعلاقات الطيبة والمصاهرة.
• وتتمثل الحُسنى في أمور كثيرة وهي:

أ) الحسنى في العرض:

إذا تعرضت فتاة إلى الاعتداء من شخص غرضه النيل منها , ثم قام شخص أو أكثر وأنقذ هذه الفتاة من خطر الاعتداء عليها , فيعتبر ذلك حسنى للمدافعين عنها على أهلها , ولا ينسى هذا الفضل أهل هذه الفتاة غير متنكرين لهذا العمل الشهم.

وذلك يُعطي انطباعاً في المجتمع بأن من يقوم بالدفاع عن الأعراض فله فضل وحسنى لا تُنسى.

ب) الحسنى في العطاء:

إن الدفاع عن أسرة ضعيفة لم يكن لها عائل ودفع الضرر عنها أو مساعدتها مالياً , يعتبر ذلك من الفضل والحسنى التي يتحاكى عنها المجتمع لمن قام بهذا العمل.

ج) الإنقاذ من الموت:

إذا قام شخص بانقاذ شخص من الموت لأي سبب وخاصة إذا تعرض الغير إليه من آخرين , فإن ذلك جميل في عنق الشخص الذي أُنقِذَ , وفي عنق عصبته , يظل هذا العمل حسنى لصاحبها.

د) الحسنى في قبول الصلح:

إن قبول الصلح في قضية قتل عمد أو الاعتداء على العرض , وقبول أهل المجني عليهما بالدية والتسامح عن قتل القاتل الأصلي يعتبر ذلك حسنى تورث على القاتل وعصبته , وتتناقلها الأجيال حتى تكون سابقة يحتذى بها من الآخرين , وتعتبر من "السوالف" التي يتم الرجوع إليها كعمل خير وحسنى بين أفراد المجتمع.

هـ) الحسنى في دفن الميت:

إن الذي يقوم بتجهيز الميت ودفنه وعمل كل ما يلزم له , حيث كان يتم ذلك في السابق في الصحراء فقط إلا أن رغبة المجتمع في الثواب أصبح مثل هذا العمل كثير جداً , فيظل هذا العمل حسنى لمن قام به.

وكل هذه المعاني تترك أثراً طيباً يوصف صاحبه بالشهامة والمروءة مما يجعل الجميع يتنافس للقيام بمثل هذا العمل.

ثالثاً : احترام الكبار وتقديرهم:

يقول رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ "ليس منا من لم يُجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه" .

يتميز المجتمع باحترام وتقدير الكبار سناً وقيمة , حيث يتم الاستماع إليه والاستفادة من خبرتهم على اعتبار "أن الكبار دفاتر الصغار" , ويعني هذا الاحترام الالتزام بقرارات الكبار وخاصة في إجراءات التقاضي وتنفيذ الأحكام.

مقابل ذلك فإن الكبار حينما تكون لقبيلتهم محنة ما , يتم التشاور بين الجميع مما يدلل على وحدة مجتمع القبيلة الذي يؤدي إلى الالتزام وبالتالي إلى الاستقرار بقناعة من الجميع على احترام الكبار وتقدير قيمتهم المتمثلة في الحفاظ على الجميع.

رابعاً : الشجاعة:

روى الإمام مسلم عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز ، وإذا أصابك شيء ، فلا تقل: لو أني فعلت كذا ، ولكن قل ، قدر الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان" .

لم تكن الشجاعة في هذا المجتمع للقتال أو الاعتداء فقط , إنما تتمثل في المجتمع السيناوي من خلال الغيرة على أعراض الغير والتدخل لحماية الضعيف حتى يسترد حقه من القوي.

كما أن الشجاعة تفرض على المجتمع سرعة التدخل في أي نزاع , وقد تتطلب الشجاعة والمروءة المشاركة في دفع مال أو التكفل بالمساهمة في الوفاء بالحق وحماية المستجير والدخيل لأن الشجاعة لم تكن وقفاً على القتال فقط.

خامساً : الدخول بالدم:

إن الرابطة بين أفراد المجتمع والإنتماء إلى القبيلة أو العصبة هي رابطة دم لا تتزعزع إلا بسبب قهري أو برغبة من أحد الأفراد معلناً رغبته الإنسلاخ من قبيلته إلى قبيلة أخرى , ويُسمى ذلك "الدخول بالدم" في قبيلة أخرى.

ولهذا العمل شرط أساسي: وهي موافقة القبيلة الجديدة على انضمامه إليها والشهادة من الكفلاء بتركه لقبيلته , وعليه أن يقوم بذبح شاة , تسمى "شاة الخَشة".

ويبدأ حياته الجديدة مع قبيلته الجديدة , ويكون قد انتقل بأسرته إلى هذه القبيلة ليحمل اسمها , والالتزام بكل ما يلتزم به أفراد هذه القبيلة وله حق الحماية على اعتبار أنه من هذه القبيلة الجديدة له ما لها وعليه ما عليها.

سادساً : الكرم:

الكرم يقرب من الجنة ويبعد عن النار ، قال رسول الله _صلى الله عليه وسلم_: "السخي قريب من الله ، قريب من الجنة ، قريب من الناس ، بعيد من النار , والبخيل بعيد من الله ، بعيد من الجنة ، بعيد من الناس ، قريب من النار , ولجاهل سخي أحب إلى الله_عز وجل_من عالم بخيل " .

يتميز مجتمع سيناء بالكرم , حيث يتسابق الأفراد على إكرام الضيف , وقد يصل في بعض الحالات إلى نقل النزاع على الضيف للتقاضي , على أولوية إكرامه , لأن التسابق على إكرام الضيف من المميزات الحسنة التي يتسابق عليها الجميع.

كما يتبين إكرام الضيف حينما ينزل على شخص لم يملك ما يقوم بذبحه لهذا الضيف , فلصاحب البيت "المُضيف" أن يأخذ أحد الخراف أو الماعز من أي قطيع يقابله ليكرم ضيفه.

ويسمى هذا الإجراء بـ "العَدَاية" , شريطة أن تكون الذبيحة التي تؤخذ من القطيع تقرئ الضيف , ولا يجب أن تكون "الخروف الكبير , التيس الكبير , الشاه العشراء".

كما يجب إخطار صاحب الماشية بذلك , لأن هذا العمل لا يعتبر اعتداءاً طالما لإكرام الضيف.

ومن معاني الكرم هو إكرام جاهة "الطيبة" وتعني إنهاء النزاع , فيتم الكرم من أهل الحق للجاهة ومرافقيها بالعفو عن جزء من الحقوق , وذلك يمثل الصفات التي تبرز حقيقة المجتمع في أصل قواعد العرف بينهم.

سابعاً : الأمانة:

يقول تعالى: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً" .

من هذا المنطلق تعتبر الأمانة من القواعد الهامة التي يُقال عنها "الأمانة في صدور الرجل".

حيث كان يتمثل ذلك في شهادة الحق وفي تناقل الأحكام القضائية العرفية بكل أمانة , فلم يكن في الماضي التسجيل كتابة , فكان لزاماً على الجميع حفظ الحقوق كأمانة في صدورهم إذا طُلب منهم ذلك , والدليل على ذلك هو توارث القضاء العرفي بكل أمانة من جيل إلى جيل.

فإن من أغلى ما يرزقه الله للعبد ، ولا يحزن بعده على أي عرض من الدنيا ، ما جاء في الحديث:

"أربعٌ إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : صدق الحديث ، وحفظ الأمانة ، وحُسن الخلق ، وعفة مطعم" .

فالأمانة ركن من هذه الأركان الأخلاقية الأربعة ، التي لا يعدلها شيء في الدنيا ، بل قد تكون سبباً في إقبال الدنيا على العبد ، لما يجده الناس فيه.

ثامناً : صدق الكلمة:

الصدق هو قول الحق ومطابقة الكلام للواقع , وقد أمر الله تعالى بالصدق ، فقال:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ" .

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، وإن الرجل ليَصْدُقُ ؛ حتى يُكْتَبَ عند الله صِدِّيقًا ، وإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، وإن الرجل لَيَكْذِبُ ، حتى يُكْتَبَ عند الله كذابًا" .

إن كلمة الصدق كانت الأساس في القضاء العرفي بداية من القاضي الصادق والشهادة الصادقة , والالتزام الصادق الذي لم يكن مُحرراً في مستند , فمن مزايا كبار القبائل صدق الكلمة مهما كانت الظروف والأسباب , لأن الجميع اعتاد على أن صدق الكلمة يؤدي إلى أسرع الحلول مع أخف الأضرار.

وكان ذلك سمة غالبة لا يسمح المجتمع بغيرها وخاصة في وصف صفات كبار القوم , أن يكون صادقاً , وإن كان عليه الحق.

تاسعاً : الوفاء:

إن كلمة الوفاء والتي تعني تنفيذ كل كلمة تصدر من الشخص الذي يستعد لهذا الوفاء.

وقد أمر الله تعالى بالوفاء بالعهد ، فقال جل شأنه:

"وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً " .

فالإسلام يوصي باحترام العقود وتنفيذ الشروط التي تم الاتفاق عليها.

وقد قال النبي _صلى الله عليه وسلم_: "المسلمون عند شُروطهم" .

ويبرز ذلك في القضاء العرفي من خلال وفاء الكفيل , وهو الضامن المتضامن , حيث لا يقبل الكفيل بأي حال من الأحوال عدم الوفاء بما استعد به حتى لو أدى الأمر أن يبيع ما يملك.

وفي بعض الحالات حينما يستحيل وفاء من رجل له سمعة طيبة وكان وفائه لوقف نزاع أو دفع حق في نزاع نجد كثيراً ممن يعرفون معنى الوفاء يساندون هذا الرجل حتى يتم الوفاء لأن الوفاء هو أساس حسم أي نزاع في القضاء العرفي.

عاشراً : نُصرة المرأة:

ثبت في يقين كل القضاة والوسطاء أن المرأة دائماً على حق ولا ترغب لنفسها ولا لأهلها الضرر , فحينما تشتكي ويتم عرض أمرها على القضاء , فالقاضي دائماً يسعى لنصرة المرأة , وبذلك يتبين أن القضاء العرفي أعطى في قواعده منذ عشرات السنين حق ونصرة المرأة.