مقال من جريدة الأهرام المصرية عن سيناء






                                                   أرض الفيروز‏..‏. في قلب وعقل مصر
                                                          بقلم: د/ حسن أبو طالب


بتاريخ: 7/7/2010م
بين الحين والآخر تظهر سيناء وبدوها كموضوع ساخن في الأحداث ،‏‏ شأنها شأن أي بقعة في بر مصر‏.‏ غير أن الغالب في الايام القليلة الماضية ان ظهور سيناء كموضوع في الاحداث الجارية ارتبط بموضوع قديم جديد‏,‏ وهو العلاقة مع بعض أهلها‏,‏ وأكثرهم من البدو الذين لهم مطالب معينة تقابلها مطالب مضادة من الدولة‏,‏ لاسيما مؤسستها الأمنية الداخلية‏.
البدو هنا ليس سوي تعبير عن هؤلاء الذين يقطنون الصحراء‏,‏ يقابلهم الحضر الذين يقطنون المدن والحواضر المستقرة‏,‏ وبعضهم من قبائل سيناء العربية الأصلاء ومنهم موظفو الحكومة والمستثمرون من محافظات مصر المختلفة‏.‏ فالتفرقة هنا ليست سوي تفرقة في أرض السكن والمعيشة‏,‏ حسب ما يقول الكاتب السيناوي يحيي محمد الغول في كتابه القيم سيناء المقدسة والمنشور في العام‏.2008‏ فالجامع بين البدو أو ساكني الصحراء والحضر أي ساكني المدن هو الانتماء المزدوج لأرض سيناء علي اتساعها من ناحية ولإحدي القبائل ذات الأصول العربية التي قطنت هذه البقعة الغالية من مصر منذ مئات السنين‏,‏ ومنها ما يزيد علي الالف عام‏,‏ وهؤلاء من الذين جاءوا مع القائد العربي فاتح مصر قبل‏1400‏ عام عمرو بن العاص‏.‏


وهناك ما يقرب من عشرين قبيلة‏,‏ اكبرها الترابين والفواخرية والسواركة والطورة والعزازمة والمساعيد والحويطات‏,‏ وغيرهم‏,‏ منتشرون في ربوع سيناء المختلفة شمالا وجنوبا وفي الوسط‏.‏
الحدث الاخير‏,‏ ونعني به لقاء وزير الداخلية مع عدد من شيوخ القبائل وبعض وجهاء سيناء كان بمثابة انفراجة حقيقية في مسيرة علاقة متوترة بين بعض البدو ووزارة الداخلية‏.‏ وهو التوتر الذي أدي إلي كثير من التشوش في التعامل مع قضايا سيناء بوجه عام‏,‏ وقضية البدو المطلوبين بوجه خاص‏.‏ وأذكر هنا تجربة شخصية لعلها تكشف المعني‏.
فقبل شهرين تقريبا كلفت بمهمة عمل مع الصديق د‏.‏ وحيد عبد المجيد‏,‏ وكان معنا الزميل الصحفي أ‏.‏ محمد حبوشة‏.‏ كان التكليف بسيطا وهو التعرف علي أحد أصول مؤسسة الأهرام في مدينة العريش وما فيه من امكانيات يمكن أن يعاد توظيفها من اجل خدمة الثقافة والتنوير الذي تضعه مؤسسة الأهرام علي كاهلها لخدمة المصريين في كل مكان‏,‏ وفي أي مكان ما دامت هناك عوامل مساعدة لاتمام المهمة علي وجه طيب‏.‏ كان علينا ان نحدد يوما للسفر وأن نطلب من الزميل أحمد سليم مراسل الاهرام في العريش أن ينظم لنا لقاء مع بعض رموز العريش للتعرف علي رؤيتهم فيما يتعلق بإعادة تنشيط المركز الثقافي التابع للاهرام هناك‏,‏ والذي يقع في أحد المواقع البارزة في العريش نفسها وعلي مسافة قريبة من إحدي كبري المؤسسات التعليمية الناشئة هناك حديثا‏,‏ وهي جامعة سيناء ذات الصيت الواعد‏.‏
كنا ندرك جيدا أن هناك بعض التوترات بين قوات الأمن وبعض البدو في مواقع متفرقة في وسط سيناء‏.‏ وكنا نظن أن ترتيبات السفر المسبقة وأن رمز الأهرام الشهير ستجعل الأمر يسيرا نسبيا‏.‏ وما أن عبرنا كوبري السلام ودخلنا إلي بداية الطريق الواصل بين القنطرة شرق والعريش حتي اكتشفنا أن الأمر مختلف تماما‏.‏
ففي كل موقع أمني تم توقيفنا وتوجيه أسئلة عديدة عن هدف الزيارة ومن سنقابل وهكذا‏.‏ لقد اسعفتنا الهواتف المحمولة في بعض المواقف حين كان علي الخط الآخر مسئول أمني يعلم بأمر رحلتنا ينصح بتسهيل الأمر‏.‏ لكن في البعض الآخر كان علينا أن نجيب علي عدد من الاسئلة أجبنا عليها من قبل عدة مرات‏.‏ وتطلب الأمر منا الكثير من الصبر والكثير من الانتظار والكثير جدا من الانزعاج‏.‏ حتي ان مجموع الرحلة التي نعرف انها لن تتجاوز ساعتين‏,‏ استمرت حوالي أربع ساعات ونصف‏.‏
أما العودة ليلا فقد اعطتنا جانبا آخر من معاناة السفر إلي سيناء‏,‏ إذ يتم إغلاق كل منافذ المرور علي كوبري السلام سوي منفذ واحد لتمر عبره كل أنواع السيارات الكبيرة والصغيرة والنقل بأنواعه‏,‏ حيث يتم التفتيش بدقة متناهية‏.‏ ووجدنا أن أمامنا ما يقرب من ستة كيلومترات مليئة بالعربات يتطلب عبورها هذا المنفذ الوحيد ما يقرب من أربع إلي خمس ساعات قبل أن نصل نحن إلي نقطة العبور‏.‏ ولذا كان علي سائقنا المحترف علي شامة أن يجرب طريقا آخر وسط سيناء وصولا إلي نفق الشهيد أحمد حمدي شمالا بالقرب من مدينة السويس‏.‏ ولكم مثل لنا هذا الطريق خبرة عملية أخري للمعاناة وبعض القلق من مفاجآت الطريق المظلم الذي يفتقر إلي أبسط الخدمات‏.‏ وما أن عبرنا النفق بعد تأخر يقترب من ساعتين‏,‏ حتي تأكد لنا أن مسألة ربط سيناء بالوادي تحتاج إلي إعادة تقويم شاملة لكل هذه الاجراءات المتبعة‏,‏ وإلي رؤية جديدة تماما‏.‏
كان من بين ما أثير في عقولنا في رحلة الذهاب هل إلي هذا الحد توجد فجوات في التنسيق بين المواقع الأمنية علي الطريق بين القنطرة والعريش؟ أم ان تشدد بعض صغار الضباط هو من لوازم الوجاهة وحسب؟‏.‏ وإذا كان يحدث مثل ما حدث معنا نحن المنتمين إلي مؤسسة صحفية كبيرة يعلم بها القاصي والداني فما هو الحال مع مواطنين عابرين لا سند لهم راغبين في التنقل بين مدن سيناء لغرض السياحة أو لقاء الأهل أو التجارة مع جزء من الوطن؟ المهم وصلنا إلي العريش بعد موعدنا المفترض بعدة ساعات‏,‏ ولم يخفف عنا سوي كرم الضيافة وحسن الاستقبال من المسئولين ورموز العريش من مثقفين وشعراء وباحثين ونواب في مجلس الشعب ومراسلين صحفيين من أبناء سيناء لصحف تصدر في الوادي‏.‏ والمفارقة هنا أن ما أثير من تساؤلات في نفوسنا كان مثار غضب دفين وعتاب شديدين من كل من التقيناهم‏,‏ كانت الرسالة واضحة تماما وهي ضرورة أن يعاد النظر في الكثير من الاجراءات الأمنية وفي الأساليب التي يتعامل بها بعض الضباط مع شيوخ القبائل ومع المواطنين السيناويين‏.‏
ولكم أحزننا أن يؤكد لنا أبناء سيناء أنهم مصريون حتي النخاع‏,‏ وأن بعض ما يكتب عنهم في بعض الصحف ومن كتاب بعينهم فيه تجن عليهم وفيه تشكيك بوطنيتهم وهو أمر لا يقبله أي مصري‏.‏ ولكم أحزننا أيضا أن المطالب التي استمعنا إليها ليست أمرا شاقا ولا تتطلب موارد هائلة ولا تمثل عبئا ثقيلا ليتم التنصل الحكومي منها كما حدث بالفعل‏.‏ ومن بين ما تردد علي أسماعنا ان تتبني مؤسسة الأهرام حملة لاعادة التركيز علي المشروع القومي لتنمية سيناء الذي تعثر منذ سنوات طويلة‏.‏ كان مجمل ما سمعناه من مطالب يصب في خانة واحدة وهي أن يتم التعامل مع سيناء باعتبارها جزءا حيويا من ارض الوطن الكبير مصر‏,‏ له صلة بالأمن القومي وله صلة مباشرة بمواجهة التهديدات التي تأتي من مصادر معلومة للكافة‏,‏ وله ارتباط عضوي بمشروعات التنمية الهادفة إلي إعادة توزيع السكان بين الوادي الضيق وبين أرض الفيروز‏.‏ كان الشعور بالتهميش غالبا بين المتحدثين‏,‏ وكانت الرغبة والأمل في التخلص من هذا التهميش عارمة ومتصاعدة‏.‏
بعض المطالب صبت أيضا في ضرورة احترام ثقافة وعادات أهل سيناء‏,‏ لاسيما تلك الاعراف التي تجل الشيوخ وتضعهم في مصاف عالية بالنسبة لكل أبناء القبيلة ولا تقبل إطلاقا من أي مسئول أمني أن يعامل هؤلاء الشيوخ بطريقة غير لائقة‏,‏ أو أن يتم التعامل مع المرأة السيناوية لاغراض أمنية‏,‏ كالضغط علي أسرة لكي تسلم احد ابنائها المطلوبين مثلا عبر التهديد بالقبض علي الأم أو الأخت أو إساءة معاملتهما علنا‏.‏ وكذلك الاعراف التي تسير شئون القبيلة فيما بين أبنائها وبعضهم البعض‏,‏ وبين القبيلة وغيرها من القبائل‏.‏ ومما تردد علي أسماعنا تأكيد الدور الكبير الذي يلعبه القضاء العرفي وكيف أن مبادئه لا تتصادم مع القانون ولا الشريعة الاسلامية‏,‏ بل هي تطبيق لهما بطريقة سيناوية أصيلة‏.‏ فضلا عن مطلب اولوية ابناء سيناء في التوظيف بالمشروعات التي تقام هناك‏.
حين أتذكر هذه المطالب وانظر إلي تلك النتائج التي انتهي إليها اجتماع وزير الداخلية مع بعض كبار الشيوخ السيناويين‏,‏ أجد أن ثمة أمرا جديدا يلوح في الأفق‏.‏ أمر يضع في اعتباره أهمية تصحيح العلاقة بين أبناء سيناء وبين المؤسسة الأمنية‏,‏ تصحيح يستمد قوته من مراعاة السمات الخاصة التي يتميز بها أبناء سيناء‏,‏ والسمات الخاصة جدا التي تتميز بها سيناء نفسها لاسيما في سياق الامن القومي المصري‏.‏


وثمة ما يلفت الانتباه هنا‏,‏ فالهدوء أخذ يعود‏,‏ والاعتماد علي شيوخ القبائل ووجهائها يتم توظيفه لصالح الجميع‏,‏ وقضية المعتقلين بضمانات وجهاء القبائل آخذة في الانفراج المتدرج‏.‏ أما المطلوبون فلهم ترتيب خاص من شأنه أن يحل هذه المسألة وفقا للقانون ووفقا لمبادئ حقوق الانسان‏.‏ وتبقي المهمة الاصعب وهي التنمية المستدامة هناك‏.‏ وتلك بدورها مسئولية الحكومة مجتمعة ومسئولية كل صاحب قرار ومسئولية كل رجال الأعمال الذين يمكنهم ان يتجهوا إلي مواقع مختلفة من سيناء من اجل التنمية والرزاعة والتصنيع والعمران‏.‏

ما يبقي هو مسئولية الوطن بأسره‏,‏ وعلينا جميعا أن نتكاتف من أجل سيناء ومن أجل أنفسنا أيضا‏.

المقال على هذا الرابط:
http://www.ahram.org.eg/220/2010/07/07/4/28306.aspx